أخبارمجتمع

يوم الزَّقْرة في اليمن: طقس عدنيّ قديم يكشف خريطة النفس والمجتمع

Spread the love

يوم الزَّقْرة واحد من أكثر طقوس الأعراس العدنية حضوراً في الذاكرة الشعبية. قد يبدو من بعيد مجرد «يوم للزينة والفرح»، لكن تحت الطرحة الخضراء تختبئ شبكة كاملة من المعاني النفسية والاجتماعية: كيف تُرى العروس؟ كيف تُربّى البنات على فكرة الزواج؟ وكيف يستخدم المجتمع حفلة صغيرة كي يضبط سلوكه وقيمه؟

في هذه التدوينة نقترب من يوم الزقرة كطقس اجتماعي ونفسي، لا كفولكلور جميل فقط.

ما هو يوم الزَّقْرة؟

في عدن وبعض مناطق الجنوب، يبدأ العرس بسلسلة أيام متتابعة: يوم الخطبة، يوم العقد، يوم الزَّقْرة والغُسل، ليلة الحناء، ثم يوم العرس نفسه. يوم الزقرة يكون عادة قبل الزفاف بيوم أو أكثر، وتُعتبر بدايته الفعلية لدخول العروس في «منطقة ما قبل الزواج». Facebook+1

في هذا اليوم:

  • تُمنَع العروس من الظهور أمام الناس، وتبقى في بيت أهلها، غالبًا في غرفة خاصة. qalme.blogspot.com
  • لا يراها إلا أقرب القريبات اللواتي يقمن بتجهيزها وتحنيتها وترتيب شعرها وملابسها.
  • تُحضَر الحنّا ومواد التجميل الشعبية (الهِرد، الزباد، الطيب) وتُستَخدم بكثافة.
  • غالبًا تُلبَس العروس زيًّا أخضر تقليديًّا، كجزء من أجواء «الزقرة العدنية» المميّزة. lahjnews.net+1

في بعض المناطق، تُدخَل العروس في أجواء الزقرة قبل يوم الزفاف بأيام أو حتى أسبوع، كنوع من تكثيف التحضير والتهيئة النفسية والجسدية. qalme.blogspot.com

وفي مناطق أخرى من لحج مثلاً، يُذكر أن أول يوم من أيام العرس يُسمّى الزقرة أيضًا، وتتولّى فيه «الماشطة» تزيين العروس بالكامل، بينما تُعزَل عن عيون الآخرين ويحتفل النسوة في غرفة أخرى بالرقص والأغاني. موقع يمنات الأخباري

الخلاصة:

الزقرة هو يوم العزلة والتجهيز والتغطية، حيث تنتقل العروس رمزيًّا من كونها «بنت في بيت أهلها» إلى زوجة تستعد للدخول في بيت جديد.

من أين جاءت كلمة «الزَّقرة»؟

1. «زقر» في اللهجة اليمنية

في لهجات حضرموت ووادي حضرموت وشبوة، تُستعمَل كلمة «زَقَر» بمعنى فتى، و**«زَقْرة»** بمعنى فتاة أو بنت صغيرة، مع جمع مثل: زقور (أولاد) وزقرات (بنات). Mo3jam معجم+2facebook.com+2

هذا الاستخدام يعطي للجذر «ز-ق-ر» دلالة مرتبطة بـ الشباب والفتوة، أكثر من أي شيء آخر.

2. «الزقرة» كبنت ثم ك يوم

منطقي جدًّا (كتحليل)، أن تكون التسمية قد بدأت من هنا:

  • زقرة = فتاة / عروس شابة في اللهجة.
  • ثم توسّع الاستعمال ليصبح اسمًا لليوم / الطقس الخاص بهذه الفتاة قبل زفافها.

أي أن اليوم الخاص بالزقرة نفسها – أي العروس.

3. «تزقير العروس» كتفسير شعبي

في الشرح الشعبي المتداول، تُربَط الكلمة بالفعل «تزقير العروس»:

  • أن تُفاجَأ العروس وهي غافلة، فتُمسك واحدة من النساء بطرف الثوب أو الطرحة، وتغطيها فجأة كإعلان بداية الطقس.
  • في لهجة بعض مناطق أبين وحضرموت، تُستخدم «زقرنا» بمعنى مسكنا أو قبضنا، وهذا يدعم القراءة التي تربط بين «الزقرة» وإمساك العروس أو تطويقها رمزيًّا قبل انتقالها للبيت الجديد. Facebook+1

هذا التفسير ليس معجميًّا قديمًا، بل قراءة محلية ذكية؛ تحاول أن تعطي معنى حركيًّا للكلمة، من خلال الفعل الجسدي: مسك، تغطية، مفاجأة.

يوم الزَّقْرة كطقس عبور أنثوي (Rite of Passage)

من زاوية علم نفس الثقافة، يمكن قراءة الزقرة كـ طقس عبور (Rite of Passage) يمر بثلاث مراحل كلاسيكية:

  1. الانفصال (Separation)
    • في يوم الزَّقْرة تُفصَل العروس عن العالم الخارجي: لا أسواق، لا زيارات، لا اختلاط.
    • يُؤكَّد عليها أن «اليوم هذا لكِ وحدك» لكن ضمن شروط الجماعة لا ضمن حريتها الفردية.
    • هذه المرحلة تبني في داخلها إحساسًا بأنها تدخل «منطقة مقدسة» لكنها في الوقت نفسه محاصَرة بنظرات وتوقعات الأسرة والمجتمع.
  2. المرحلة الحدّية / بين بين (Liminality)
    • الزقرة هي مساحة «بين بين»: العروس ليست بعدُ زوجة، وليست بعدُ بنتًا حرّة في بيت أهلها.
    • تتعرّض فيها لسيل من النصائح:
      • «اصبري».
      • «الزوج بيتك».
      • «لا ترفعي صوتك».
      • «حافظي على بيتك مهما كان».
    • هنا تُعاد برمجة تصوّرها عن نفسها وعن دورها؛ وكأن الطقس يقول لها: أنتِ الآن تخرجين من ذاتك الفردية إلى دور اجتماعي محدّد سلفًا.
  3. الاندماج (Incorporation)
    • بعد انتهاء الزقرة، يأتي يوم الغسل وليلة الدخلة، فتظهر العروس للناس كزوجة مكتملة الزينة، ممهورة بخطاب جديد عن الطاعة والستر والبيت. qalme.blogspot.com+1
    • المجتمع يستقبلها بهويّة جديدة:
      • لم تعد «بنت فلان» فقط؛ أصبحت «زوجة فلان».

الجسد يجب أن يكون جميلًا… لكنه ليس ملكك وحدك؛ هو مشروع للتزيين من أجل الآخر (الزوج / المجتمع)

البعد النفسي – من الطفلة إلى «العروس»

1. العزل كجسر بين مرحلتين

في يوم الزَّقْرة تُسحب العروس من الحياة اليومية إلى مساحة مغلقة: غرفة، مخدرة، قاعة نسائية فقط. هذا العزل ليس مجرد «حفاظ على العادات»، بل يحمل رسالة عميقة:

  • أنتِ لم تعودي بنتاً عادية؛ أنتِ الآن مشروع زوجة.
  • هناك حدود جديدة للجسد، للكلام، للحركة، وحتى للضحكة.

هذه الرسالة تُرسِّخ عملية الانتقال من الطفولة أو الشباب إلى دور اجتماعي صارم. الفرح هنا ممتزج بقلق خفي: خوف من المجهول، من الحياة الجديدة، ومن التوقعات الضخمة التي يحملها الجميع عن «الزوجة المثالية».

2. الجسد تحت الطرحة: بين التزيين والرقابة

الطرحة الخضراء والملابس الثقيلة والنقش والذهب ليست زينة فقط؛ هي أيضاً أدوات ضبط:

  • يتم الاعتناء بكل تفاصيل الجسد: الشعر، اليدان، القدم، البشرة…
  • في الوقت نفسه تُغطَّى العروس بالكامل، فلا تظهر إلا في اللحظة التي يقررها الطقس.

هذا التوتر بين إبراز الجمال وإخفائه يخلق لدى كثير من الفتيات إحساساً مزدوجاً: «أنا جميلة ومطلوبة» لكن أيضاً «جسدي مراقَب، ومسموح أن يُرى فقط وفق شروط المجتمع». هذه الفكرة تُرافق بعض النساء لاحقاً في علاقاتهن العاطفية: مزيج من الرغبة في أن تُرى، والخوف من أن تُحاسَب بسبب هذا الظهور.

أما كلمة «الزَّقرة» نفسها، فتُربَط بالفعل الشعبي «تزقير العروس»؛ أي مفاجأتها وهي غافلة بتغطيتها بالطرحة أو الثوب، كنوع من المزاح و«إعلان بداية الطقس»، وهو ما تشير إليه بعض القراءات اللغوية للبيئة العدنية.

3. الزقرة كإعادة برمجة للمشاعر

تجربة يوم الزَّقْرة قد تُعيد تشكيل علاقة الفتاة بنفسها وبالحب:

  • من كانت ترى الزواج شراكة، قد تبدأ في رؤيته كـ«مسرحية كبيرة» يجب أن تنجح فيها أمام الجمهور.
  • من كانت تشعر بأنها حرة في اختيار شريكها، قد تشعر أن حياتها أصبحت مشروعاً عائلياً عاماً، لا قراراً شخصياً.

كل ضحكة، كل زغرودة، كل صورة تُلتقط في هذا اليوم، قد تصبح «برمجيات عاطفية» تتحكم لاحقاً في طريقة دخولها أي علاقة: هل الحب احتفال حقيقي، أم أداء اجتماعي مكرَّر؟

البعد الاجتماعي – مجتمع يتفرّج على الفرح ويعيد إنتاج نفسه

1. يوم الزقرة كاختبار للحالة المادية

رغم أن الطقس شعبي وبسيط في جذوره، إلا أنه اليوم أصبح في كثير من الأعراس عرضاً لمستوى العائلة:

  • ديكورات خاصة ليوم الزقرة، مصوّرون محترفون، قاعات مزينة، وترندات في إنستغرام وتيك توك تُظهر «ستايل الزقرة العدنية». Instagram+1
  • تفاصيل اللبس والهدايا والطعام تصبح مؤشرات غير معلنة عن القدرة المالية.

هنا يتحول الفرح إلى مساحة منافسة اجتماعية: من عملت يوم الزَّقْرة أفخم؟ من أحضرت طبّالات أكثر شهرة؟ من أبهرت الضيوف بالديكور والمكعّس؟

هناك لحظة فاصلة يجب أن تعبرها المرأة؛
والمجتمع ما زال يحب أن يحوّل هذه اللحظة إلى طقس مهيمن على جسدها وحركتها ومشاعرها

هذا الضغط المادي ينعكس على الأسر المتوسطة والفقيرة؛ قد تتحمل ديوناً أو ضغوطاً لمجاراة «المستوى»، في حين كان أصل الطقس تعاونيّاً وبسيطاً.

2. مساحة نسائية مغلقة… لكن ليست دائماً آمنة

إيجابية يوم الزَّقْرة أنه مساحة نسائية خالصة تقريباً: النساء يغنين، يرقصن، يشاركن الخبرة، يقدمن النصائح للعروس، ويخلقن دائرة دعم قويّة حولها.

لكن هذه المساحة قد تتحول أيضاً إلى:

  • ساحة للمقارنات بين العرائس الأخريات.
  • مكان لتكرار الخطاب التقليدي: «اصبري، لا ترفعي صوتك، رضا الزوج أهم من كل شيء»، بدون نقاش حقيقي لحقوق العروس وحدودها.

بهذا الشكل، تساهم الزقرة في إعادة إنتاج نموذج المرأة المتوقَّع: صبورة، متحمّلة، جميلة، لكن بصوت منخفض واستقلالية محدودة.

الأبعاد الاجتماعية: من يملك قرار «الزَّقرة»؟

1. سلطة الجماعة النسائية

الملفت أن الزقرة – ظاهريًّا – طقس نسائي بالكامل:

  • الماشطة، الأم، الخالات، الصديقات، الجارات… هنّ من يملكن الغرفة والكلام والقرار في مجريات اليوم. موقع يمنات الأخباري+1

لكن لو دقّقنا أكثر:

  • هذه الجماعة النسائية نفسها تنقل خطاب المجتمع الأبوي:
    • «تحمّلي».
    • «الرجال كذا طبيعتهم».
    • «البيوت خرابها من النساء».
  • فتتحول النساء إلى حُرّاس للنظام بدل أن يكنّ مساحة أمان للعروس.

2. الزقرة كأداة ضبط اجتماعي

الزقرة ليست مجرد «زينة قبل العرس»؛ هي:

  • إعلان أن العروس أصبحت «محجوزة» رسميًّا.
  • ضبط لحركتها وعلاقاتها في الأيام الأخيرة قبل الزواج.
  • فصل رمزي بينها وبين عالم البنات والعلاقات السابقة، تمهيدًا لإدخالها في عالم الزوج وأسرته.

بهذا المعنى،يوم الزَّقْرة تعمل كآلية من آليات المجتمع لـ:

  • إعادة تشكيل هوية المرأة.
  • ضبط جسدها وحركتها وانفعالاتها ضمن إطار الزواج.

الزقرة اليوم… بين الحنين والتغيّر

مع تغيّر أنماط الحياة، هجرة كثير من اليمنيين إلى الخارج، وانتشار صالونات التجميل، تغيّرت ملامح يوم الزَّقْرة:

  • في بعض المدن، اختفت «الماشطة» التقليدية وحلّت محلها الكوافير، لكن ظلّ اسم الزقرة حاضرًا. موقع يمنات الأخباري+1
  • في أماكن أخرى، تقلّصت العزلة الطويلة، وصارت العروس تقضي جزءًا من يومها في الصالون ثم تعود.
  • الجيل الجديد ينظر أحيانًا للزقرة كجزء من الفولكلور الجميل، أكثر من كونها طقسًا مُلزِمًا.

لكن، حتى عندما تتغيّر التفاصيل، تبقى الفكرة الأساسية موجودة:

هناك لحظة فاصلة يجب أن تعبرها المرأة؛
والمجتمع ما زال يحب أن يحوّل هذه اللحظة إلى طقس مهيمن على جسدها وحركتها ومشاعرها.

3. الهويّة العدنية في مواجهة العولمة

كثير من الشباب اليوم يتمسكون بيوم الزَّقْرة كجزء من «التراث اللي ما نريدش يضيع»، حتى لو غيّروا بعض التفاصيل. هذا التمسك يمنح المجتمع إحساساً بالاستمرارية والانتماء، ويخلق رابطاً بين الأجيال: الجدّات يحكين كيف كانت الزقرة قديماً، والحفيدات يطبّقن نسخة جديدة منها.

رابعاً: بين الحنين والنقد – هل نحتاج لإعادة تعريف الزقرة؟

من منظور نفسي–اجتماعي، يوم الزقرة ليس جيداً أو سيئاً في ذاته؛ بل يعتمد على كيف نمارسه اليوم:

  • يمكن أن يكون مساحة دعم آمن للعروس، تُسمَع فيها مخاوفها بصدق، وتُذكَّر بحقوقها وحدودها، لا فقط بواجباتها.
  • ويمكن أن يتحول إلى ضغط مادي ونفسي، يشعر فيه الجميع بأنهم في سباق لإبهار الآخرين، وتتلقى فيه العروس رسائل سلبية عن نفسها وعن الزواج.

إعادة تعريف الزقرة لا تعني إلغاء الطقس، بل طرح أسئلة مثل:

  • ماذا لو صار يوم الزَّقْرة فرصة لحوار حقيقي مع العروس عن علاقتها بذاتها، لا عن كيف ترضي الآخرين؟
  • ماذا لو خفّضنا مظاهر الاستعراض المالي، وعدنا لروح التعاون والبساطة؟
  • كيف نحافظ على الهوية العدنية من دون أن نكرّس أنماطاً مؤذية عن دور المرأة؟

خاتمة

يوم الزَّقْرة أكثر من طرحة خضراء وأغنية عدنية؛ هو مرآة تعكس كيف ننظر للمرأة، للزواج، ولأنفسنا كمجتمع. حين نفهم الأبعاد النفسية والاجتماعية لهذا الطقس، نستطيع أن نحتفظ بجماله ودفئه، ونُعدّل ما فيه من ضغوط ورسائل مؤذية.

بهذا تصبح الزقرة ليست مجرد «ليلة فرح» تُنسى في زحمة الأيام، بل لحظة وعي: هل نريد أن نكرر نفس السيناريوهات القديمة، أم نصنع معنى جديداً للفرح، أكثر رحمة وصدقاً وعدلاً مع بناتنا؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى