خبز أمي والتنور: ذاكرة لا تبرد
هناك أشياء لا تحتاج إلى صور كي نتذكّرها؛ يكفي أن تمرّ بخيالنا رائحتها، فتهبّ معها كل التفاصيل دفعة واحدة.
خبز أمي والتنور واحد من هذه الأشياء التي لا تبرد في القلب مهما ابتعدنا عن البيت أو تغيّرت المدن من حولنا.
هناك روائح لا تزور الأنف أولًا، بل تطرق باب القلب مباشرة.
رائحة توقظ البيت قبل الشمس
كنتُ أستيقظ أحيانًا قبل أن يوقظني أحد، لا لأنني نشيطة جدًّا، بل لأن رائحة الخبز كانت تعرف طريقها إلى روحي قبل أن تعرفه إلى أنفي.
صوت احتكاك يدَي أمي بالعجين، وطرقاتها الخفيفة على الطاولة، وحركة صحون المعدن… كل هذه الأصوات كانت موسيقى الفجر في بيتنا.
كان البيت وهو ما زال غارقًا في النعاس، يبدأ يستعيد أنفاسه مع أول دفعة خبز تلتصق بجدار التنور.
لحظتها بالذات، كنت أشعر أن اليوم بدأ فعلاً، وأن وراء هذه الرائحة قصّة تعب، وحنان، وحرص صامت على أن نخرج من البيت وبطوننا وقلوبنا ممتلئة.
اقرا ايضا اقرا ايضا قعدة الجارات السورية
كل فجرٍ كانت أمي تعجن لنا يومًا جديدًا، لا خبزًا فقط.
من العجين إلى الجمر: حكاية صبر يوم كامل
خبز أمي لم يكن مجرّد دقيق وماء وملح.
كان يبدأ من اليوم السابق:
- تنخل الدقيق كأنها تُصفّي ثقل الأيام عنه،
- تضيف الملح بقدر، والخميرة بحنان، والماء كما لو أنها تسقي بذرة،
ثم تبدأ رحلة العجن… ذلك الفعل الذي يجمع بين القوّة والرفق في آن واحد.
كانت تنظر إلى العجين بعد أن يلين بين يديها كما تنظر الأم لطفلٍ هدأ بعد بكاء، تغطّيه بقطعة قماش نظيفة، وتتركه ليستريح ويعلو.
في الليل ننام، وفي الصباح نستيقظ، لكن العجين لا ينام؛ يظلّ يكبر ببطء، استعدادًا لولادتِه خبزًا.
العجين الذي يعلو في الوعاء، يشبه أحلامًا صغيرة تكبر بصبرٍ في زوايا البيت.
التنور: قلب البيت النابض بالنار والدفء
التنور في بيتنا لم يكن مجرّد أداة للطبخ، بل كان قلبًا من طين يحفظ أسرار البيت:
- حرارة الجمر في داخله تشبه حرارة الدعاء في قلب أمي،
- ودائرته المفتوحة على أعلى تشبه نافذة صغيرة بين الأرض والسماء.
حين تشعل أمي النار في التنور، لا تشعل الخشب فقط، بل تشعل الصباح كله.
تجلس بالقرب منه، تقرّب الخبز من الجدار، تلصقه بحركة خفيفة خبيرة، كأنها تضع قبلة على جبين طفل.
ثم تنتظر… وتحدّق في اللون وهو يتحوّل من الأبيض إلى الذهبي، ومن العجين النيء إلى خبزٍ حيّ يخرج وهو يئن بحرارة طازجة.
كان التنور يلتهم الحطب، ويهبنا بدلًا عنه خبزًا وطمأنينة.
تنور القرية وتنور المدينة
في القرى، يكون التنور غالبًا من الطين أو الحجر، يُبنى على الأرض أو يُغرس جزءٌ منه في باطنها، وتُغذّيه حطب الأشجار اليابسة وبقايا الأخشاب.
النار فيه ليست فقط للخبز؛ كثيرًا ما تجتمع حوله النساء، تُنجَز بجانبه أعمال البيت، ويتحوّل المكان إلى جلسة صغيرة فيها كلام وهمس وضحك.
التنور هنا جزء من المشهد اليومي: خلف البيت، أو في فناء صغير، أو بجوار حظيرة، يعيش مع تفاصيل الحياة البسيطة.
في المدن، تغيّر شكل التنور وإن بقيت روحه:
- أحيانًا يكون مبنيًا من الطوب الحراري داخل مخبز صغير في الحارة،
- وأحيانًا يتحوّل إلى تنور معدني يعمل بالغاز، يشبه التنور التقليدي في شكله الدائري وحرارته العالية، لكنّه يناسب إيقاع المدينة السريع.
ومع توسّع الأفران التجارية، صار كثير من الناس يتركون خبز التنور اليومي للمخبز القريب، فيذهب الشخص حاملاً صينية العجين، ويعود بصينية مليئة بأرغفة ساخنة تحمل بصمة التنور ورائحة الشارع في نفس الوقت.
في القرية التنور خلف البيت، وفي المدينة في أول الشارع… لكن الحنين له واحد.
أسماء التنور في الوطن العربي
رغم تشابه الفكرة، فإن للتنور أسماء متعدّدة في الوطن العربي، تعكس اختلاف البيئات والعادات:
- في اليمن والعراق وكثير من بلدان الخليج، يبقى اسمه المباشر «التنور» أو «التنّور»، ذلك الوعاء الطيني أو الحجري الذي تُلصق على جوانبه الأقراص الطرية لتتحوّل إلى خبز مستدير.
- في فلسطين والأردن وبعض قرى الشام، يظهر اسم «الطابون»؛ وهو فرن من طين وحجارة، يكون على هيئة قبّة صغيرة أو حفرة مغطاة، تُخبَز فيه أرغفة كبيرة مميّزة تُسمّى خبز الطابون، بطعمٍ مدخَّن وقشرة منقّطة بحرارة الجمر.
- في بلاد الشام ولبنان والخليج ينتشر «الصاج»؛ وهو سطح حديدي أو نحاسي محدّب، يُسخَّن بالنار أو بالغاز، وتُفرد عليه أرغفة رقيقة جدًّا مثل المرقوق والماركوك، تُقلَب بسرعة فوق القبة المعدنية حتى تنضج.
- في مصر وبعض بلدان المغرب العربي، يظهر اسم «الفرن البلدي» أو «الفُرن»، وهو بناء مقبّب من الطوب أو الحجر، تُحمّى أرضيته وجدرانه بالنار، ثم يُزاح الجمر جانبًا وتُدخَل الصواني وأرغفة الخبز، فيرتفع الخبز بحرارة الجدار من كل الجهات.
تتغيّر الأسماء من تنّورٍ وطابونٍ وصاجٍ وفرن بلدي، لكن الخبز الذي يجمع العائلة واحد.
خبز أمي… طعم البيت الذي لا يُشترى
قد نشتري اليوم عشرات أنواع الخبز من المخبز أو السوبرماركت، لكن لا شيء يشبه لقمة من خبز أمي الخارج لتوّه من التنور:
- حافة مقرمشة،
- وسط طريّ يذوب في الفم،
- وسحابة من البخار تصعد كأنها تحكي قصة الطريق من العجين إلى النار.
تضع أمي الخبزة الأولى جانبًا، أحيانًا تهمس بدعاء، وأحيانًا تقسمها نصفين وتقدّمها لنا ونحن نمدّ أيدينا قبل أن تبرد.
كان هذا الخبز أول إفطار، وأول مكافأة، وأول شعور بالامتلاء في اليوم.
لقمة من خبز أمي كانت كافية لتصالحنا مع العالم كله.
خبز أمي كدرس في الحب والبساطة
مع الوقت فهمت أن خبز أمي لم يكن مجرّد “واجب منزلي” أو عمل روتيني.
كان درسًا يوميًا في أشياء كثيرة:
- الاهتمام بدون ضجيج
لم تقل لنا يومًا: «انظروا كم أتعب من أجلكم»، لكنها كانت تقول ذلك بيدَيها، بحرارة التنور، وبرائحة الخبز المتكرّرة كل صباح. - الصبر
العجين يحتاج وقتًا ليخمر، والتنّور يحتاج وقتًا ليسخن، والخبز يحتاج وقتًا لينضج.
كل شيء كان يقول لنا: الأشياء القيمة لا تأتي بسرعة. - الكرم
خبز أمي لم يكن لأهل البيت فقط.
دائمًا هناك مساحة لضيف عابر، أو جارٍ يمرّ صدفة، أو طفل من الحارة يشمّ الرائحة فيقترب بخجل.
قطعة الخبز تقطع من الوسط لتتّسع للجميع.
علّمتنا أمي أن الخبز لا يليق به البخل؛ من خرج من التنور، يجب أن يجد طريقه إلى الأيدي قبل الصحون.
حين أخذتنا الأفران بعيدًا عن التنور
كبرنا، واتّسعت المدن، وصار التنور –في كثير من البيوت– مجرد ذكرى في أطراف الذاكرة.
حلّ محلّه الفرن الكهربائي أو الغاز، أو الخبز الجاهز من المخبز.
لم نعد نستيقظ على صوت الحطب ولا على رائحة الخبز التي تتسرّب من شقوق النوافذ.
اليوم يمكننا أن نطلب الخبز بتطبيق على الهاتف، يصلنا في كيس بلاستيكي، مرتبًا، متشابهًا، بلا حكاية.
الخبز هو نفسه «خبز»، لكن الفرق بينه وبين خبز أمي هو الفرق بين صورة قديمة حيّة، وصورة مطبوعة بلا روح.
خبز التطبيقات يشبع المعدة، أما خبز أمي فكان يشبع القلب قبل كل شيء.
التنور في زمن السرعة: كيف نحفظ هذه الذاكرة؟
لسنا مضطرّين أن نملك تنورًا في كل بيت، ولا أن نعود جميعًا للعجن اليومي كي نحفظ هذه الذاكرة.
لكن بإمكاننا أن نفعل أمورًا صغيرة تجعل خبز أمي والتنور جزءًا من حكايتنا المستمرة:
- أن نسأل أمهاتنا وجدّاتنا عن وصفة الخبز، ونكتبها بأيدينا في دفتر خاص.
- أن نجرب –ولو مرّة في الشهر– خبزًا منزليًا، ولو في فرن عادي، كنوع من الوصل لا كنوع من التقليد الحرفي.
- أن نحدّث أبناءنا عن التنور، لا كقطعة طين قديمة، بل كرمز لبيت كان يجتمع حوله الجميع.
- أن نربط بين الخبز والامتنان: قبل أن نأكل، نتذكر الطريق الطويل الذي قطعه القمح من الحقل إلى المائدة.
خبز أمي… وطن صغير أحمله معي
أينما ذهبت، وأي مدينة سكنت، تظلّ رائحة خبز أمي هي الطريق الأقصر للعودة.
قد لا أستطيع حمل التنور معي، ولا حطب القرية، لكنني أحمل تلك اللحظة:
لحظة خروج الخبزة الأولى من قلب النار، واستدارة أمي وهي تناديني لأقترب، ووضعها لقمة ساخنة في يدي.
في تلك اللحظة بالذات، كنت أشعر أنني أملك العالم:
بيتًا آمنًا، أمًّا تدعو بصمت، وتنورًا مشتعلاً لا يخاف من انطفاء الأيام.
قد يبرد الخبز على الطاولة، لكن خبز أمي في الذاكرة لا يبرد أبدًا.
يَبقى هناك، في الزاوية الدافئة من القلب، جائعًا فقط لابتسامة… أو لمقال نكتبه عنه كي لا يضيع مع زحمة التفاصيل.




