life couch/motivationalHomeصحتك

شيوخ الفجر في صنعاء: أعمدة تمشي على الأرصفة ولا تنحني للحرب

Spread the love

مع أول خيط من الضوء، وقبل أن تستيقظ المدينة كلها، تتحرّك في شوارع صنعاء القديمة والحديثة ظلال هادئة، متأنية، تحمل على أكتافها سنوات طويلة من التعب والتجربة. كبار السن الذين يخرجون كل صباح ليمشوا، ليتريضوا، وكأنهم يعلنون اتفاقًا سريًا مع الحياة: لن نتوقف عن الحركة، ما دام في الصدر نفس واحد.

رغم البرد القارس الذي يلسع الأيدي والوجوه، ورغم المناخ المتقلّب، ورغم أخبار الحرب التي تقتحم البيوت قبل أن تُفتح النوافذ، يختار هؤلاء أن يلبسوا معاطفهم القديمة، يلفّوا الشال حول أعناقهم، ثم يخرجوا. ليس لأنها عادة صحية فحسب، بل لأنها رسالة عميقة: الحياة لا تتوقف، حتى لو توقفت الكهرباء، أو انقطعت الرواتب، أو ضاقت الأرواح.

«هناك من يجعل من الصباح موعدًا مع الشكوى، وهؤلاء جعلوه موعدًا مع الشكر.»

هؤلاء الشيوخ الذين تراهم يمشون بخطوات بطيئة أحيانًا، متعبة أحيانًا أخرى، هم في الحقيقة أعلى من كثير من الخطب والكلمات. إنهم يمارسون ما لا نزال نتحدّث عنه في الكتب: القدرة على التكيّف، والإصرار على مواصلة الحياة، وعدم الاستسلام للظروف.

رياضة تتحدّى البرد والحرب في صنعاء

في مدينة عاشت سنوات طويلة من الأزمات، وربما تعبت من سماع كلمة «حرب»، يبدو مشهد كبار السن وهم يمشون في الفجر كأنه مشهد من عالم آخر. البرد في صنعاء ليس مزحة، والهواء البارد يخترق العظام، ومع ذلك ترى أحدهم يمشي بخطوات ثابتة، يحرّك كتفيه، يفتح ذراعيه، ويأخذ نفسًا عميقًا كمن يقول: «أنا ما زلت هنا.»

الآخر يرافق صديقًا له، يتبادلان الحديث بين خطوة وخطوة: عن الأسعار، عن أولاد سافروا، عن حفيد في المدرسة، عن ذكريات بعيدة لسنوات كانت أبسط وأخف. لكن تحت هذا الحديث اليومي البسيط، هناك شيء أعمق: إصرار مشترك على ألا يتحوّلوا إلى أسرى للواقع القاسي.

«الحرب تأخذ من الجدران ألوانها، لكنها لا تملك أن تأخذ من الروح قرارها.»

الرياضة في صنعاء ليست رياضة بالمعنى الحديث فقط؛ ليست عضلات ولا برامج غذائية. إنها رياضة معنوية، تدريب يومي على الصبر، ومقاومة الاستسلام. حين يقرر كبير في السن أن يخرج من بيته في هذا البرد، في ظل هذا القلق، فهو يقول دون أن يتكلم:
«لن أسمح للخوف أن يسجنني، ولا للعمر أن يوقفني، ولا للبرد أن يجمّد رغبتي في العيش.»

كبار في السن… لا في الهمّة

المعتاد أن نربط «الشيخوخة» بالتعب، بالانزواء، بالجلوس في زوايا البيوت. لكن ما يحدث في شوارع صنعاء عند الفجر يرسم تعريفًا مختلفًا للكبر في السن: كبر في التجربة، لا في الانهزام.

هناك رجل تجاوز السبعين، يمشي كل يوم أكثر من شاب في العشرين. يمشي وهو يحمل على ظهره تاريخًا مليئًا بالتقلّبات: جمهوريات وسلاطين، حروبًا وسلامًا، فقرًا وغنى، صعودًا وهبوطًا. ومع ذلك، لم يختَر أن يكون أسير الماضي، بل شريكًا في الحاضر، ولو بخطوة على الرصيف.

«أن تكبر في العمر سهل، أن تكبر في الهمّة هذا إنجاز.»

عندما نرى هؤلاء، ندرك أن قوتهم ليست في خلوّ أجسادهم من المرض، فمعظمهم يحملون آلامًا في الركبتين، أو الظهر، أو التنفّس. لكنهم يحملون شيئًا أثمن من الصحة الكاملة: روحًا ترفض الاستسلام.
هم نموذج حيّ يقول لجيل الشباب:
«ليس العيب أن تتعب، العيب أن تجعل التعب حجّة لتتوقف عن كل شيء.»

اقرا ايضا العادات السبع الاكثر فعالية

التكيّف مع المناخ والظروف… فنّ صنعاني قديم

صنعاء مدينة عرفت القسوة في مناخها منذ زمن بعيد؛ برد شديد في الشتاء، وشمس حادة في الظهر، وهواء رقيق في المرتفعات. لكن الإنسان الصنعاني تعلّم عبر أجيال أن يعيش مع هذه القسوة، لا أن يهرب منها. كبار السن الذين يخرجون في الفجر هم امتداد لهذا الفن القديم: فنّ التعايش مع الواقع بدلًا من لعنه.

يلبسون ما توفر من الملابس الثقيلة، يختارون الشوارع التي تصيبها الشمس أولًا، يمشون قرب الجدران التي تقيهم الرياح، ويعرفون متى يتوقفون ليلتقطوا أنفاسهم. هذا التكيّف ليس مجرد حيلة يومية، بل ثقافة كاملة تقول:

«إذا لم تستطع تغيير الطقس، غيّر طريقتك في مواجهته.»

الحرب ليست مناخًا جويًا، لكنها مناخ نفسي واجتماعي واقتصادي قاسٍ. ومع ذلك، نجد هؤلاء الكبار يمارسون نفس القاعدة:
لا يستطيعون إنهاء الحرب وحدهم، لكنهم يستطيعون أن يختاروا كيف يعيشون في ظلها:

  • لا يتركون أجسادهم تتصلب في البيوت.
  • لا يتركون قلوبهم تموت من الخوف.
  • لا يتركون أيامهم تنتهي بين الشكوى والتأفّف فقط.

حين يصبح كبير السن قدوة في زمن الارتباك

في كثير من المجتمعات، يكون القدوة هو الشاب الناجح، صاحب المشروع، أو صاحب الوظيفة المرموقة. لكن في صنعاء اليوم، يمكن أن يكون القدوة هو الشيخ الذي تستيقظ لتراه يمشي كل صباح، أكثر التزامًا بحياته من كثير من الشباب المشتتين بين الأخبار والحزن ووسائل التواصل.

«أحيانًا يكون أعظم درس في التنمية البشرية هو شيخ يمشي بصمت في الشارع.»

تخيل شابًا يرى جاره العجوز يخرج يوميًا للرياضة، بينما هو يختار النوم حتى منتصف النهار، أو قضاء وقته بين الحيرة والانتظار. شيئًا فشيئًا، تبدأ المقارنة الصامتة داخل نفسه:
«ما الذي يمنعني أنا من أن أتحرك؟»
«إذا كان هذا الرجل، بكل آلامه، يصر على أن يعيش يومه، فماذا أفعل أنا بشبابي؟»

هكذا يتحوّل كبار السن إلى مرايا صامتة؛ كل من يمرّ بهم يرى صورته الحقيقية، ويرى إلى أي مدى يساهم في بناء حياته، أو يتركها تنسحب منه ببطء.

من الحرب إلى الحياة… خطوة خطوة

لا أحد ينكر أن الحرب تسرق من الناس الكثير: الأمان، الاستقرار، الأحلام المؤجلة، السفر، الوظائف، وحتى بعض العلاقات. لكن كبار السن الذين يخرجون للرياضة كل صباح يذكّروننا بأن الحرب لا يمكن أن تسرق كل شيء، إذا رفضنا نحن أن نسلّمها المفتاح.

هم لا يملكون قوة سياسية ولا منصبًا، لا يظهرون على شاشات التلفاز، لكنهم يمارسون نوعًا من المقاومة الهادئة:

  • مقاومة لتحوّل البيوت إلى سجون.
  • مقاومة لتحويل العمر إلى حجة للانهيار.
  • مقاومة لفكرة أن الحرب تعني تعليق الحياة حتى إشعار آخر.

«الحياة لا تنتظر انتهاء الأخبار العاجلة كي تبدأ؛ هي تبدأ من أول خطوة نتجرأ أن نخطوها.»

في كل جولة مشي، يربط هؤلاء الشيوخ بين شيئين:
الواقع المرّ… والأمل الصامت.
هم يعرفون تمامًا أن ما حولهم ليس مثاليًا، لكنهم اختاروا أن يعيشوا ما يستطيعون، لا أن يندبوا ما لا يستطيعون تغييره.

دروس للأجيال الشابة من خطوات بطيئة

إذا أبطأت النظر قليلًا، ستكتشف أن كل خطوة يخطوها هؤلاء الكبار تحمل درسًا:

  1. درس في الاستمرارية:
    لا يهم إن كانت السرعة بطيئة، المهم ألا تتوقف. «أهم خطوة في الطريق ليست الأولى ولا الأخيرة، بل تلك التي ترفض فيها أن تستسلم.»
  2. درس في قبول الجسد مع دعوته للحركة:
    هم لا ينتظرون أن يصبح الجسد كامل الصحة ليبدؤوا؛ يتحركون بما تبقّى من قوة، ويصونونها بالحركة.
    وفي ذلك رسالة واضحة: لا تنتظر الظروف المثالية لتبدأ؛ لن تأتي.
  3. درس في البساطة:
    رياضتهم لا تحتاج اشتراكًا في نادٍ رياضي، ولا ملابس خاصة. شارع، حارة، حديقة صغيرة، وقرار من الداخل. «كل ما تحتاجه لتغيّر حياتك: قلب يقتنع، وقدم تتحرّك.»
  4. درس في الصبر:
    خطواتهم ليست سريعة، لكنهم يلتزمون بها يومًا بعد يوم. هذا الصبر هو ما يصنع الفرق بين من يحوّل الفكرة إلى عادة، ومن يبقيها أمنية.

الصحة النفسية والجسدية… هدية يمنحونها لأنفسهم ولمن حولهم

في عالم يمتلئ بالخوف والضغط، لا يمكن أن نقلّل من قيمة هذه العادة البسيطة. المشي في الصباح يمنحهم:

  • فرصة لتنشيط الدورة الدموية، وتخفيف آلام المفاصل ما أمكن.
  • فرصة للتعرّض لضوء الصباح اللطيف الذي يساعد على توازن المزاج.
  • فرصة لمغادرة جو الأخبار والخلافات العائلية والأعباء اليومية ولو لساعة.

لكن الأهم من ذلك كله:
المشي يعطيهم شعورًا بأنهم ما زالوا فاعلين في حياتهم، لا مجرد متفرجين عليها.

«أخطر ما تفعله الظروف بنا ليس أن تُتعب أجسادنا، بل أن تُقنعنا أننا لم نعد قادرين على فعل شيء.»

حين يرى الأبناء والأحفاد أجدادهم بهذه الروح، يفهمون معنى العافية الحقيقي: ليست أن تكون بلا ألم، بل أن تبقى قادرًا على أن تحب الحياة رغم الألم.

من ظلال الفجر إلى نموذج أعلى للمجتمع كله

إذا أراد مجتمع أن يتجاوز الحرب، فعليه أن يبدأ من داخله؛ من طريقة نظره للحياة، من نوع القدوات التي يختارها. كبار السن الذين يمشون في شوارع صنعاء، دون ضجيج أو شعارات، يقدمون نموذجًا من أرقى ما يكون:

  • نموذج للثبات: أن تواصل حياتك دون أن تنكر ما يحدث، ودون أن تستسلم له.
  • نموذج للاستمرارية: أن تكرّر الفعل الصغير حتى يصبح عادة قوية.
  • نموذج للأمل البسيط: أمل لا يعتمد على الوعود الكبيرة، بل على خطوة صغيرة تُكرر كل صباح.

«ليس القدوة من يتحدث عن الشجاعة، بل من يمارسها في تفاصيله اليومية.»

يستحق هؤلاء أن نكتب عنهم، أن نذكر أسماءهم، أن نلتقط لهم الصور لا من باب التسلية، بل من باب الاعتراف بفضلهم علينا؛ لأنهم يذكّروننا بشيء ربما بدأنا ننساه:
أن في الإنسان طاقة هائلة على النجاة والتكيّف، لو قرر أن يجعل إرادته أعلى من ظروفه.

حين يصبح الفجر أستاذًا، والشيخ كتابًا مفتوحًا

في صباحات صنعاء الباردة، يتحوّل الفجر إلى فصل دراسي مفتوح، ويصبح كبار السن هم المعلمون الهادئون. كل خطوة، كل نفس بارد يخرج من صدورهم، كل التزام يومي بالخروج من البيت، هو جملة مكتوبة على هواء المدينة:

«سنعيش، ولو كان كل شيء حولنا يدعونا إلى الاستسلام.»

إنهم أعلى من آلاف الخطب لأنهم لا يقولون: «اصبروا.» بل يعيشون الصبر.
لا يقولون: «تحركوا.» بل يتحركون.
لا يقولون: «لا تيأسوا.» بل يختارون الحياة يومًا بعد يوم.

ربما لا يطلبون من أحد أن يقتدي بهم، ولا يفكرون في أنفسهم كـ «قدوة» أصلًا. لكن من حقّنا نحن أن نراهم كما هم حقًا:
أعمدة تمشي على الأرصفة، تسند معنويات جيل كامل دون أن تعرف ذلك.

وعلينا، نحن الأصغر سنًا، أن نتعلم من هذا الدرس الصامت:
إن كان كبير في السبعين أو الثمانين قادرًا على أن يتحدى البرد والحرب وقلق الحياة بخطوات على الرصيف، فما الذي يمنعنا نحن من أن نخطو خطوة نحو أنفسنا، نحو صحتنا، نحو حياتنا التي لم تنتهِ بعد؟

«حين يعجز الواقع عن أن يكون رحيمًا، تصبح مسؤوليتنا أن نكون رحماء بأنفسنا… ولو بمجرّد أن نخرج للمشي كل صباح.»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى