في الحارات السورية القديمة والحديثة، ما زال مشهد الجارات اللواتي يمررن على بعضهنّ صباحًا واحدًا من أكثر التفاصيل دفئًا في الحياة اليومية. جارة تفتح باب بيتها بعد أن تفرغ من ترتيب البيت وتحضير الفطور، تلتفت إلى الجارة في الشقة المقابلة أو البيت المجاور وتقول ببساطة محببة:
“عاملين قهوة… تعالي”.
هذه الجملة القصيرة تحمل في داخلها دعوة إلى أكثر من مجرد فنجان قهوة؛ إنها دعوة إلى مشاركة اليوم، والحديث، والضحكة، والسر الصغير، ولقمة الحلو التي لا تكتمل القعدة من دونها.
قعدة الجارات: مساحة صغيرة خارج ضجيج اليوم
لا تكون القعدة طويلة بالضرورة، لكنها عميقة بمعناها. تجلس الجارات في الصالون أو على البلكونة، طاولة بسيطة، صينية قهوة، فناجين صغيرة، وسكّر بدرجاته حسب مزاج كل واحدة. القهوة غالبًا “سورية – تركية” على النار، برائحة الهيل التي تسبق الضيوف وتعلن بدء الجلسة، أو أحيانًا شاي أسود ثقيل مع نعناع أو زهورات.
الحديث يدور حول كل شيء ولا شيء في آن واحد:
- أخبار الأولاد والمدارس.
- أسعار السوق والغلاء.
- وصفة أكل جديدة جرّبتها إحداهن.
- حكايات قديمة من أيام الطفولة أو الزواج أو الحارة.
هذه القعدة تبدو بسيطة، لكنها تبني شبكة دعم اجتماعي حقيقي بين النساء. الجارة لا تأتي فقط لتشرب القهوة، بل لتشعر أنها ليست وحدها في مواجهة تعب اليوم.
الحلويات السورية… ضيوف دائمون على صينية القهوة
ما يميّز القعدة السورية بين الجارات ليس القهوة وحدها، بل ما يرافقها من حلويات سورية شهيرة، تدخل إلى الجلسة كضيفة شرف، وتحوّل الفنجان إلى لحظة متكاملة من المتعة.
1. المعمول: ضيافة المناسبات والزيارات “المرتّبة”
المعمول من أشهر الحلويات السورية التي تحضر بقوة في الزيارات، خاصة عندما تكون القعدة “مرتّبة” أو في الأعياد والمناسبات.
يأتي المعمول بحشوات متنوعة:
- تمر طري مع نكهة اليانسون أو المحلب.
- جوز مع سكر وقرفة.
- فستق حلبي ناعم.
تضع ربة البيت المعمول في طبق جميل، مرشوشًا بالسكر الناعم، وتقدّمه مع القهوة. لقمة واحدة منه تكفي لتجمع طعم البيت، والذاكرة، والعيد في قضمة صغيرة.
2. البقلاوة: طبقات من الفخامة اليومية
رغم أنها تبدو “فاخرة”، إلا أن البقلاوة حاضرة في كثير من البيوت السورية، سواء كانت محضّرة في المنزل أو مشتراة من المحلات.
تتكوّن من:
- طبقات رقيقة من العجين (رقائق الفيلو).
- حشوة من الفستق أو الجوز.
- شيرة (قطر) خفيفة تضفي عليها لمعانًا وحلاوة متوازنة.
تُقدَّم معها القهوة السادة، فمرارة القهوة توازن حلاوة البقلاوة، وتخلق مزيجًا محببًا عند الجارات: الحديث، الفنجان، والقطعة المقرمشة التي تختفي بسرعة من الطبق.
3. الغريبة والهلاليات: بساطة تذوب في الفم
هناك أيام لا تكون فيها الجلسة “رسمية”، بل عفوية وسريعة، فتظهر الغريبة والهلاليات على الطاولة:
- الغريبة: بسكويت ناعم من الطحين والسمن والسكر، يذوب في الفم فورًا.
- الهلاليات: قطع صغيرة على شكل هلال، مرشوشة غالبًا بالسمسم أو السكر.
هذه الحلويات بسيطة في مكوناتها، لكنها محببة للجميع، وتُقدّم خاصة عندما يكون في القعدة أطفال أو ضيوف لا يحبون الحلويات الثقيلة.
4. البرازق والسمسمية: قرمشة مع الشاي أو المتّة
في بعض البيوت، خاصة في دمشق وحلب، تحضر البرازق بقوّة، وهي بسكويت مغطّى تمامًا بالسمسم المحمّص، مع لمسة فستق حلبي على الوجه.
تُعتبر مثالية مع الشاي:
- تغمس قطعة صغيرة في الشاي.
- تخرج بطعم مزيج من السمسم المحمص والحلاوة الخفيفة.
أما السمسمية والفستقية (قطع من المكسرات المربوطة بالسكر أو القطر) فتظهر أحيانًا في القعدات التي يكون فيها ضيوف أكثر أو عند شراء حلويات جاهزة من الأسواق.
5. الكعك السوري: مع القهوة أو “غرشة” الشاي
الكعك بحبة البركة أو السمسم أيضًا ضيف دائم على القعدات السورية.
يؤكل:
- إمّا مع الشاي الصباحي.
- أو مع القهوة، خاصة إذا كان الكعك محشوًّا بالتمر.
هذه القطع الصغيرة تمنح الجلسة طابعًا بسيطًا وعمليًا: لا تحتاج شوك وسكاكين، فقط تُمدّ اليد، وتُؤكل لقمة لقمة بين جملة وأخرى.
القعدة… أكثر من حلويات وقهوة
وراء هذه التفاصيل، هناك معنى أعمق:
1. بناء علاقات أمان وثقة
عندما تمرّ الجارة على جارتها وتقول لها:
“عاملين قهوة… تعالي”
فهي ترسل رسالة غير منطوقة:
- “بيتي مفتوح لك.”
- “وقتي لك مساحة مشتركة.”
- “أنتِ مو وحدِك.”
ومع تكرار هذه اللحظات، تتحول الجارة إلى صديقة، وأحيانًا أخت، وامتداد عائلة ثانية في نفس البناية أو الحارة.
2. انتقال الخبرة بين الأجيال
في هذه الجلسات، لا تنتقل وصفة المعمول أو طريقة عمل البقلاوة فقط، بل تنتقل خبرات الحياة:
- كيف تدير ربة البيت مصروفها؟
- كيف تتعامل الأم مع عناد طفلها؟
- كيف واجهت إحداهن موقفًا صعبًا في العمل أو مع الجهات الرسمية؟
الجيل الأصغر يتعلّم من الأكبر بلا دروس رسمية، فقط عبر الكلام الذي يدور فوق صينية القهوة.
3. توازن نفسي وسط ضغوط الحياة
القعدة مع الجارات تعطي النساء فرصة للتنفس. وسط ضغوط الاقتصاد، الغربة، أو مشاكل الحياة اليومية، تمنحهنّ هذه اللحظات شعورًا بأن هناك من يسمع، ومن يفهم، ومن عاش شيئًا مشابهًا.
القهوة هنا ليست منبّهًا للجسد فقط، بل أيضًا “منبّهًا للروح”، تستيقظ معها مشاعر المشاركة بدل الوحدة.
الحلويات والجلسة: طقس كرم لا ينتهي
جزء كبير من جمال هذه العادة هو الإصرار اللطيف على الكرم:
- “خدي كمان قطعة.”
- “لسّا ما ذقتي شي، روحي عني.”
- “هاي معمولة بإيدي، لازم تجربيها.”
حتى لو كانت الإمكانيات المادية محدودة، تحرص ربة البيت أن تقدّم شيئًا مع القهوة: قطعة كعك، تمر، لقمة حلو بسيطة. القيمة ليست في فخامة ما يُقدَّم، بل في النيّة وراءه، وفي إحساس الضيف بالترحيب.
القعدة كـ “مسرح مصغّر” للحياة الاجتماعية
جلسة الجارات حول القهوة والحلو ليست مجرد استراحة من شغل البيت. هي مساحة تعكس طريقة عمل المجتمع على مستوى مصغّر:
- في هذه الجلسة، تمرّ أغلب موضوعات الحياة اليومية:
- الزواج والطلاق.
- المدارس والأولاد.
- الأسعار والأزمة الاقتصادية.
- أخبار الأهل في الداخل والخارج.
- كل جارة تأتي بفنجانها وقصتها، وتضعهما معًا على الطاولة.
هكذا يتحوّل البيت إلى مسرح صغير تُختبَر فيه الأفكار والمواقف قبل أن تخرج إلى العالم الأكبر.
ما يُقال همسًا بين الجارات اليوم، قد يتحوّل غدًا إلى رأي عام صغير داخل البناية أو الحارة، ومن ثم إلى مزاج اجتماعي عام داخل المدينة أو حتى البلد.
البعد الثقافي – كيف تُعاد صياغة الهوية فوق صينية القهوة؟
1. الحفاظ على “شكل الحياة” رغم تغيّر الظروف
في بلد مرَّ بتغيّرات كبيرة وحروب وأزمات، تبقى القعدة مع الجارات نوعًا من الإصرار على الاستمرار.
طاولة صغيرة، قهوة، حلو سوري بسيط (معمول، برازق، كعك، بقلاوة…) تصبح أدوات مقاومة هادئة ضد الشعور بالانهيار.
- تقديم المعمول أو البقلاوة مع القهوة ليس مجرد كرم؛
هو إعلان غير مباشر: “ما زال عندنا وقت للحلو، للجمال، للضيافة… رغم كل شيء.”
بهذا المعنى، الحلويات السورية نفسها تحمل دورًا ثقافيًا:
هي جزء من ذاكرة الجمعية، تذكّر النساء والجارات بأنهن ما زلن ينتمين لشيء مستمر وممتد، مهما تغيّرت السياسة والاقتصاد.
2. نقل الذوق والعادات بين الأجيال
في هذه الجلسات تتعلّم الفتيات الصغيرات:
- كيف يُقدَّم فنجان القهوة؟
- متى نضع الحلو على الطاولة؟
- ما هي عبارات الترحيب والاعتذار والامتنان؟
- ما هو “المسموح” أن يُقال أمام الناس، وما يبقى داخل البيت؟
هكذا تتحوّل القعدة إلى مدرسة غير رسمية تنقل:
- الذوق الجمالي (طريقة التقديم، ترتيب الصحون، نظافة المكان).
- الذوق الأخلاقي (الاحترام، الحفاظ على السمعة، عدم التجاوز في الكلام).
- الذوق الاجتماعي (كيف نسأل، متى نتدخل، ومتى نصمت).
هذا كله يصنع هوية ثقافية تُعاد صياغتها كل صباح على صينية القهوة.
البعد الاجتماعي – شبكة دعم غير مكتوبة
1. القعدة كـ “شبكة أمان” خاصة بالنساء
في مجتمع قد لا تحصل فيه المرأة دائمًا على مساحة واسعة للتعبير في الفضاء العام، تصبح قعدة الجارات:
- منبرًا صغيرًا لعرض مشاكلها اليومية.
- مساحة للإفضاء دون خوف من الحكم الرسمي أو الاجتماعي المباشر.
هنا تلعب القعدة دورًا يشبه:
- “خط ساخن” للمشاكل الأسرية.
- استشارة جماعية في التربية والمال والعلاقات.
- دعم نفسي غير معلن.
امرأة تعاني من مشكلة مع زوجها، أو ضيق مالي، أو تعب نفسي، قد لا تذهب إلى مختص، لكنها تذهب إلى جارتها. في القعدة، تُختبر حلول واقعية مستندة إلى خبرة نساء خضن تجارب مشابهة.
2. إنتاج “الرأي العام الصغير” وتدوير النفوذ
في القعدة، لا يتم فقط تبادل القصص، بل أيضًا تشكيل الانطباعات والصور:
- من “المرأة الحكيمة” التي تُستشار وتُسمَع كلمتها.
- من “الجارة الكتومة” التي تحافظ على الأسرار.
- من “المُبالغَة” أو “ناقلة الأخبار” التي يجب الحذر منها.
هذه التصنيفات الصغيرة تصنع نوعًا من الخريطة الاجتماعية داخل الحارة:
- من يُرجع لها في الأزمات.
- من يُوثق في رأيها عند اتخاذ قرار مهم.
- من يُحترم كلامها حين تنقل خبرًا عن شخص أو مكان.
هذه الخريطة المصغّرة هي الأساس الذي يقوم عليه المشهد الاجتماعي الأكبر:
نفس آلية بناء السمعة، الثقة، والشك التي تعمل بين الجارات، تعمل لاحقًا في الحي، ثم في المدينة، ثم في المجتمع كله.
من القعدة الصغيرة إلى الصورة الكبرى للمجتمع
1. كيف يتحرك “المشهد” من البيت إلى الحي إلى البلد؟
- خبر صغير عن ارتفاع الأسعار في محل معيّن، ينتقل عبر الجارات، فيُقاطع الحي المحل أو يطالب بالتعديل.
- حكاية عن ظلم تعرّضت له امرأة في دائرة حكومية، تتحول إلى سردية يتم تداولها، فتخلق شعورًا عامًّا بعدم الرضا عن جهة ما.
- قصة نجاح لابن إحدى الجارات (جامعة، عمل، مشروع)، تتحول إلى نموذج يُقتدى به داخل الحارة.
بهذه الطريقة، تصبح القعدة:
وحدة إنتاج صغيرة للرأي، تشكّل جزءًا من حركة المجتمع القيمية والوجدانية.
ما يبدو “حكي جارات” هو في الحقيقة تدفّق مستمر للمعنى:
- من هو الظالم ومن هو المظلوم؟
- ما هو المقبول وما هو المرفوض؟
- ماذا يجب أن نخاف منه؟ وماذا يمكن أن نأمل فيه؟
2. تشكيل “المزاج الاجتماعي”
المزاج العام – الذي يظهر في الشارع، في الانتخابات، في ردود الفعل تجاه حدث كبير – لا ينشأ فجأة.
جزء منه يتكوّن في هذه المساحات الصغيرة:
- في طريقة استقبال خبر جديد.
- في تعليق بسيط من جارة عند سماع حادثة:
- “هيك ما بيصير”،
- أو “الله يعين الناس”،
- أو “لازم الواحد يوقف مع الحق”.
هذه التعليقات، المكرّرة يومًا بعد يوم، تصنع مزاجًا متراكبًا.
ولذلك، ما يبدو قعدة صباحية “خفيفة” هو في الحقيقة مكان هادئ تُطبخ فيه مواقف المجتمع على نار هادئة.




