غدامس، المدينة الواحة في قلب الصحراء الكبرى في ليبيا، هناك حكاية تبدو أقرب إلى الأسطورة: الرجال يمشون في الأزقة السفلية، بينما النساء يتحرّكن فوق السطوح. صورة واحدة تكفي لطرح أسئلة كثيرة عن العمارة، و الحرية، والخصوصية، وكيف يمكن لمدينة أن تعيد اختراع شوارعها بما يناسب روحها.
غدامس ليست مجرد نقطة على الخريطة، بل مدينة طينية بيضاء مائلة إلى الصفرة، مبنية من الطين والجير وجذوع النخيل، تحتمي من حرّ الصحراء بجدران سميكة وأزقة ضيقة مغطّاة. يصفها أحد الرحّالة قائلًا:
“كأن المدينة اختبأت من الشمس داخل نفسها، وقرّرت أن تعيش في الظلّ، وتترك للحرارة صحراءها الواسعة.”
البيت في غدامس
في هذه المدينة، البيت ليس صندوقًا أفقيًا، بل كيان عموديّ الوظائف:
الطابق الأرضي للمخازن والمؤونة، يبتلع حرارة النهار ليحمي الطعام والماء.
الطوابق الأعلى للسكن، حيث تعيش الأسرة وتنام وتلتقي.
أما الأسطح، فهي ليست مجرد نهاية للبناء، بل بداية لعالم آخر: عالم نسائيّ يمشي فوق المدينة.
تقول إحدى نساء غدامس في وصف بيت طفولتها:
“كنا نعيش في بيت من عدّة طوابق، لكن عالمنا الحقيقي كان فوق؛ على السطح كنّا نضحك، نطهو، نزور، وننظر إلى السماء.”
الأسطح في غدامس ليست منفصلة كما هو مألوف في المدن الحديثة، بل متّصلة ببعضها عبر ممرّات وحدود مشتركة، صُنِعت بعناية بحيث تسمح للنساء بالانتقال من بيت إلى آخر دون الحاجة للنزول إلى الشارع. من فوق، توجد أبواب صغيرة وفتحات سرّية بين الأسطح، تشكّل شبكة طرق غير مرئية.
تحكي عجوز من نساء غدامس:
“كنت أصل إلى بيت أختي من فوق، لا تسأليني أين يبدأ بيتنا وأين ينتهي بيتها؛ السطوح كانت جسرًا بين قلوبنا قبل أن تكون جسرًا بين الجدران.”
هكذا وُلدت في غدامس «مدينتان» فوق بعضهما:
مدينة سفليّة، يمشي فيها الرجال في الأزقة المغطّاة، يتنقّلون بين السوق والمسجد والعمل.
ومدينة علويّة، نسائية، تتحرّك فيها النساء بحرية نسبيّة فوق السطوح، يزرن بعضهن، يتبادلن الأطباق والأحاديث، ويراقبن الحياة من مستوى أعلى، حرفيًّا ومعنويًّا.

هذه الحركة فوق السطوح ليست مجرد حيلة معمارية، بل حلّ مركَّب يجمع بين عدّة أبعاد:
أولًا، بُعد المناخ:
الأزقة السفليّة مظلّلة ومنخفضة، تناسب حركة الرجال الذين يغادرون البيوت إلى السوق والعمل. أمّا النساء اللواتي يمضين وقتًا أطول قرب المنازل، فوجود ممرّات علوية مفتوحة للهواء يسمح لهنّ بالحركة في نسيم أعلى قليلًا من حرارة الشوارع الضيّقة.
تعبّر سيدة غدامسية عن ذلك ببساطة:
“كنا نقول إن الهواء فوق السطح أخفّ، كأنه لا يحمل هموم الرجال وضجيج السوق.”
ثانيًا، بُعد الخصوصية والحشمة:
في مجتمع يعطي أهمية كبيرة لحماية المرأة من أعين الغرباء، لم تكن الخيارات محصورة فقط بين العزلة الكاملة أو الاختلاط الكامل. جاءت الأسطح كحلّ وسط:
تخرج المرأة من إطار الغرفة الضيق إلى فضاء مفتوح، لكنها تظل في حريم معماري محفوظ، محجوب عن نظر من لا يحقّ له النظر.
في جملة بليغة ترويها امرأة من غدامس تقول:
“الشوارع للرجال في الأسفل، والسماء لنا في الأعلى… لم نكن مسجونات، لكننا أيضًا لم نكن مكشوفات.”
ثالثًا، بُعد العلاقات الاجتماعية النسائية:
حين تصبح السطوح طرقًا، تتحوّل العلاقات بين الجارات إلى شبكة حيّة من التضامن اليومي. صحن طعام يعبر من سطحٍ إلى سطح، طفلة صغيرة تركض حافية القدمين بين بيت جدتها وبيت خالتها، همسة تُقال من فوق فتصل إلى قلبٍ في بيت مجاور.
تصف شابة سمعت حكايات جدّتها عن السطوح قائلة:
“كنت أتخيّل السطح مثل ساحة كبيرة للنساء، يتقاسمن فيها السرّ والخبز والضحكة.”
اليوم، تغيرت حياة كثير من أهل غدامس. انتقلت عائلات إلى أحياء جديدة، وهاجر بعضهم إلى مدن أخرى، وأصبحت المدينة القديمة في عيون الكثيرين «موقعًا تراثيًّا» أكثر من كونها حيًّا سكنيًّا مكتملًا. لكن حكاية النساء اللواتي يمشين فوق السطوح ما زالت جزءًا من ذاكرة المكان، تُروى للسائحين وللأجيال الجديدة على أنها مثال على عبقرية الإنسان حين يحاول التكيّف مع الصحراء ومع العرف في آن واحد.
من زاويةٍ، يمكن النظر إلى هذه العادة كصورة من صور تقييد حركة المرأة داخل فضاءات معيّنة، وعدم مشاركتها للشارع بشكل متساوٍ مع الرجل. ومن زاوية أخرى، يمكن قراءتها كذكاء نسائي في تحويل «المسموح» إلى مساحة حياة كاملة؛ فبدل أن تبقى المرأة حبيسة الجدران، صنعت من السطوح مدينة لها، تتحرك فيها، وتبني صداقاتها، وتراقب من فوق عالمًا يموج تحتها.
ربما أهم ما تعلّمنا إيّاه غدامس هو أن العمارة ليست جدرانًا فقط، بل نظام حياة كامل: طريقة لتوزيع الضوء والظل، الحرية والحدود، الحركة والسكون. وأن النساء، حتى حين تُفرض عليهنّ قيود المجتمع، قادرات على إعادة استخدام الفراغ، وتحويل سقف البيت إلى شارع، وجدار السطح إلى جسر.
في النهاية، تبقى صورة امرأة غدامسية تمشي فوق السطح، تحمل بيدها صحن طعام أو سلة غسيل، وترفع رأسها للحظة نحو السماء، صورة تختصر سؤالًا عميقًا: كيف نبني مدنًا تمنح أجسادنا الظل والراحة، وتمنح أرواحنا طريقًا تمشي عليه بلا خوف، ولو كان هذا الطريق فوق السطوح.




