مبادرة الأماني للتراث اليمّاني فخر اليمن في الخارج : مشروع بدأ من الشغف وتحول إلى رسالة
في زمن تتسارع فيه العولمة وتذوب فيه ملامح الهويات المحلية، تختار بعض المبادرات أن تسير عكس التيار، فتعود إلى الجذور لا بدافع الحنين فقط، بل من أجل إعادة تقديم الهوية بصورة معاصرة وواعية. من بين هذه المبادرات تبرز «الأماني للتراث اليماني»، التي أسستها أماني أحمد المأخذي بدافع شخصي عميق، جعل من حبّها لبلدها وموروثه نقطة انطلاق لمشروع ثقافي مستمر داخل اليمن وخارجه.
أولاً: من شغف فردي إلى مبادرة لها هوية واضحة
بدأت فكرة الأماني للتراث اليماني كبذرة بسيطة في قلب مؤسستها؛ شغف بملابس الأجداد، بمطرزات الأمهات، وبالحكايات التي ترويها الأزياء القديمة دون كلمات. كانت أماني ترى أن اليمن – رغم عمق حضارته – يُعرَف في الإعلام غالباً من زاوية الحرب والأزمات، بينما تُهمَّش صورته الجمالية والثقافية.
من هنا ظهرت الفكرة:
لماذا لا نعيد تقديم اليمن عبر أجمل ما يملكه؟
عبر الأزياء، والمقتنيات التراثية، والفنون الشعبية، يمكن للزائر أن يلتقط عن البلد صورة مختلفة تماماً؛ صورة شعب يحب الجمال، ويحفظ ذاكرته في الخيوط والنقوش والألوان.
لم تتعامل أماني مع التراث بوصفه «ديكوراً» أو «استعراضاً فولكلورياً»، بل كمشروع له رسالة واضحة تسعى إلى ترسيخها في أذهان كل من يزور الأجنحة التي تشرف عليها.
ثانياً: رسالة المبادرة – إحياء الهوية وتمثيل اليمن في الخارج
مع تطور العمل، تحوّل الشغف إلى رسالة ثقافية معلنة يمكن تلخيصها في:
«إحياء الهوية اليمنية وتمثيلها في المحافل الدولية بصورة تليق بتاريخ اليمن العريق.»
هذه العبارة ليست مجرد شعار، بل محدّد عمليّ لطريقة عمل «الأماني للتراث اليماني»؛ فهي تعني عدة أمور:
- إحياء الهوية
أي عدم الاكتفاء بعرض قطع تراثية جامدة، بل تقديمها في سياق يشرح قصتها: من أي منطقة جاءت؟ ما الفرق بين زيّ تعز وصنعاء وحضرموت وعدن؟ ما المعاني الرمزية للألوان والتطريز؟ كيف كانت المرأة اليمنية تعبّر عن مكانتها الاجتماعية عبر لباسها وحليّها؟ - التمثيل اللائق في المحافل الدولية
الحضور في الخارج يحمل حساسية إضافية؛ فالمبادرة تدرك أن كثيراً من الزوار قد تكون هذه أول مرة يسمعون فيها عن اليمن من زاوية ثقافية. لذلك تحرص الأماني للتراث اليماني على أن يبدو كل تفصيل – من ترتيب القطع إلى طريقة استقبال الزوار – متسقاً مع صورة بلد عريق ومتحضر، لا بلدًا عالقًا في زاوية الأخبار السياسية فقط. - الجمع بين الأصالة والحداثة
لا تطرح المبادرة التراث كشيء من الماضي فقط، بل تحاول إظهاره كجزء قابل للاندماج في الحاضر: تصاميم يمكن أن تُستوحى في الأزياء المعاصرة، أفكار يمكن أن تتحول إلى منتجات إبداعية، وصور يمكن أن تظهر في الإعلام الحديث ومواقع التواصل.

ثالثاً: البوث اليمني… نافذة صغيرة على بلد واسع
من أبرز ما عُرفت به الأماني للتراث اليماني هو تجهيز الأجنحة اليمنية (البوثات) في الفعاليات الثقافية داخل المدارس والجامعات والملتقيات الطلابية.
في كل مرة يُفتَح فيها بوث يمني تحت إشراف المبادرة، لا يكون الهدف مجرد تعليق علم وصورتين قديمتين، بل:
- بناء زاوية مصغّرة من اليمن داخل الفعالية.
- خلق تجربة حسّية كاملة للزائر: يرى، يلمس، يسمع، يشم، ويتذوق أحياناً جزءاً من الثقافة.
يتحقق ذلك عبر:
- عرض الأزياء التقليدية من مناطق مختلفة: زيّ عدني، زيّ صنعاني، حضرمي، تهامي…
- وضع مقتنيات قديمة أو مستوحاة من التراث مثل أدوات القهوة، الفخّار، الحليّ الفضية، وأقمشة المطرزات اليدوية.
- تزيين الزاوية بصور اليمن القديمة والحديثة: البيوت الطينية، الأسواق، الوجوه البسيطة، والمساجد التاريخية.
- أحياناً إضافة موسيقى تراثية خفيفة أو مقاطع مرئية تعرّف بالبلد.
بهذه الطريقة، يتحوّل البوث من طاولة عرض إلى فضاء مصغّر للذاكرة اليمنية.
ابعاً: حضور في المدارس – تعريف الأجيال الجديدة باليمن
من بين المشاركات اللافتة، تأتي مشاركة «الأماني للتراث اليماني» في اليوم الثقافي بمدرسة جلوبال (Global) وغيرها من المدارس:
- يتم تجهيز ركن يمني متكامل داخل ساحة المدرسة، يمرّ به الطلاب من مختلف الجنسيات.
- يتعرّف الطلاب على أسماء الأزياء، ويمسكون ببعض المقتنيات، ويسألون عن معنى النقوش والألوان.
- بعض المدارس تتيح فقرات قصيرة يتم فيها عرض الأزياء اليمنية على المسرح، أو تقديم فقرة تعريفية عن تاريخ اليمن وحضارته.

هذه المشاركات لا تخدم صورة اليمن فقط، بل تعطي الطلاب اليمنيين أنفسهم – إن وجدوا – فرصة للفخر بهويتهم، والتعريف بأنفسهم أمام زملائهم بطريقة إيجابية. كثير من الأطفال يحملون معهم صوراً نمطية عن بلدان بعضهم البعض من الإعلام؛ والبوث التراثي يمنح فرصة لكسر هذه الصور بأخرى أكثر عمقاً وإنسانية.
خامساً: في الجامعة الإسلامية – ماليزيا… اليمن حاضِر بين ثقافات العالم
على مستوى الجامعات، شاركت الأماني للتراث اليماني في تنظيم بوث اليمن في الجامعة الإسلامية – ماليزيا، وهي بيئة دولية تضم طلاباً من عشرات الدول.
في مثل هذه الفعاليات، يكون التحدّي أكبر:
- الزوار غالباً طلاب جامعيون واعون، يسألون عن التاريخ والسياسة والاقتصاد، لا عن اللباس فقط.
- لذلك يُصمَّم البوث بحيث يقدّم صورة متوازنة: تراث بصري جميل، ومعه معلومات مكتوبة أو شفهية عن حضارة سبأ ومعين وحِمير، عن العمارة اليمنية، عن البن اليمني، وعن دور اليمن في طرق التجارة القديمة.
بهذا الشكل، يتحول الركن اليمني إلى حلقة نقاش ثقافي وليس مجرد استعراض بصري.
الطلاب من دول أخرى يجدون في هذا البوث مساحة لطرح أسئلة وتصحيح مفاهيم، بينما يشعر الطلاب اليمنيون بأن بلدهم ممثَّل بكرامة واعتزاز.
سادساً: المشاركة في GMIS… خطوة نحو فضاءات أوسع
إلى جانب المدارس والجامعات، شاركت الأماني للتراث اليماني ضمن فعاليات GMIS ببرامج ثقافية مميزة، لتنتقل من فضاء الفعاليات التعليمية إلى فضاءات أوسع تستقطب جمهوراً متنوعاً من الزوار والضيوف.
في مثل هذه الملتقيات، يختلط الجمهور بين:
- أسر مقيمة،
- طلاب دوليين،
- زوار من خارج البلد المضيف،
- وأحياناً شخصيات رسمية أو إعلامية.
هنا يزداد تأثير البوث اليمني:
- فكل صورة تلتقط أمام الزي اليمني،
- وكل مقطع فيديو قصير على وسائل التواصل بجوار القهوة اليمنية أو العود،
هي رسالة صغيرة تنتقل إلى مئات وربما آلاف الأشخاص في أماكن مختلفة من العالم.
الأجنحة التي تشرف عليها الأماني للتراث اليماني تُعرَف عادة بأنها من أكثر الأجنحة حضوراً واهتماماً؛ ليس للزينة فقط، بل لطريقة التفاعل مع الزوار: شرح مبسّط، حوار هادئ، استعداد للإجابة عن الأسئلة، وفتح المجال لتجربة «ارتداء قطعة تراثية» أو التقاط صورة تذكارية معها.
سابعاً: الأبعاد النفسية والاجتماعية للمبادرة
لا يتوقف أثر الأماني للتراث اليماني عند حدود التعريف بالثقافة؛ للمبادرة أبعاد نفسية واجتماعية مهمّة، خاصة في بيئات الاغتراب:
- تقوية انتماء الجالية اليمنية
عندما يرى اليمنيون في الخارج زاوية تمثل بلدهم باحترام وجمال، يشعرون بأن هويتهم ليست عبئاً، بل مصدر فخر. هذا الانتماء الإيجابي يخفف من ضغوط الاندماج، ويمنح الأطفال خصوصاً علاقة صحية مع جذورهم. - سدّ فجوة الصورة النمطية
كثيرون لا يعرفون عن اليمن سوى أخبار الحرب. حين يقفون أمام فستان تراثي مطرز، أو يسمعون حكاية عن مدينة قديمة، تتشكّل في أذهانهم صورة أخرى: بلد عاش قروناً من الحضارة، وله عمق إنساني وجمالي لا يمكن اختزاله في عنوان سياسي. - تمكين المرأة اليمنية في المجال الثقافي
كون المبادرة تقودها امرأة يمنية يعطي رسالة ضمنية عن قدرة المرأة على أن تكون حاملةً للتراث ومؤثرة في الفضاء العام، لا مجرد متلقّية أو «واجهة» فقط. هي هنا صاحبة قرار واختيار وتنظيم وعمل ميداني.
ثامناً: تحدّيات الطريق وفرص التطوير
مثل أي مبادرة مستقلة، تواجه الأماني للتراث اليماني تحدّيات عدّة، من أهمها:
- تكاليف جمع المقتنيات وحفظها، خاصة إذا كانت أصلية وقديمة وتحتاج لعناية خاصة.
- اللوجستيات المرتبطة بنقل الأزياء والقطع بين الفعاليات المختلفة، والحفاظ عليها من التلف.
- الحاجة إلى دعم مؤسسي أو شراكات مع جهات رسمية وثقافية، لضمان استمرارية العمل وتوسّعه.
في المقابل، توجد فرص كبيرة يمكن البناء عليها:
- تحويل جزء من العمل إلى ورش تدريبية في المدارس والجامعات حول التراث اليمني، بدل الاكتفاء بالعرض.
- إنتاج مواد رقمية (صور عالية الجودة، فيديوهات، كتيّبات إلكترونية) يمكن نشرها على الإنترنت لتصل الرسالة إلى جمهور أوسع.
- التعاون مع مبادرات ثقافية عربية وعالمية، لتكون الأجنحة اليمنية جزءاً من مشاريع أكبر تعرّف بالتراث العربي عموماً.
تاسعاً: نحو مستقبل يدمج التراث بالإبداع الحديث
لا يتوقّف طموح الأماني للتراث اليماني عند حدود المعارض المؤقتة؛ فالمبادرة تمتلك بذرة مشروع يمكن أن يتطور إلى:
- علامة تجارية للأزياء المستوحاة من التراث اليمني، تُصمّم بطريقة عصرية تناسب الأجيال الجديدة.
- مركز ثقافي متنقل يقدّم عروضاً ومحاضرات وورش عمل عن اليمن في دول مختلفة.
- منصة رقمية توثّق القصص وراء كل زي وكل قطعة، وتربط بين الباحثين في التراث اليمني والمهتمين به حول العالم.
تحويل الشغف إلى مشروع مستدام يتطلّب تخطيطاً وتمويلاً ودعماً، لكن الأساس موجود: رؤية واضحة، وتجربة ميدانية ناجحة في الفعاليات والأيام الثقافية.




